أجاب: بأن سبب وضع الجزية هو قوله تعالى: (قاتِلُوا اْلذينَ لا يُؤْمنُونَ بالله وَلا بالْيَوْمِ اْلآخر، وَلا يُحرمونَ ما حَرمَ الله ورَسُوِلهُ، ولا يَدينُونَ دينَ الْحَق مِن الذين أوتُوا الْكتاًبَ حَتى يُعْطُوا الْجزْية عَنْ يَد وهُمْ صاغِرونَ).
القول في أخذ الجزية من المجوس
فأجمع الفقهاء على أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد توقف في أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هَجر: ذكره البخاري.
وذكر الشافعي أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدرى كيف أصنع في أمرهم. فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) وهذا صريح في أنهم ليسوا من أهل الكتاب، ويدل عليه قوله تعالى: (أن تقولُوا إِنما أُنْزلَ الْكتاَبُ عَلى طَائفَتينِ منْ قبلنا، وَإِنْ كُنا عَن دراسَتِهِمْ لَغافِلِين) فاللّه سبحانه حكى هذا عنهَم، ولم ينكرهَ عليهمَ، ولمَ يكذبهم فيه.
وأما حديث على أنه قال: ( أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم، ودعا أهل مملكته وقال: تعلمون ديناً خيراً من دين آدم وقد أنكح بنيه بناته، فأنا على دين آدم! فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلهم، فأصبحوا وقد أسرى بكتابهم، ورُفع العلم الذي في صدورهم، فهم أهل كتاب، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - وأراه قال: وعمر - منهم الجزية " . فهذا حديث رواه الشافعي في مسنده وسعيد بن منصور وغيرهما؛ ولكن جماعة من الحفاظ ضعفوا الحديث. قال أبو عبيد: لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظاً.
وقد روى البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كسرى: " أمرنا نبينا أن نقاتلكَم حتى تعبدوا اللّه وحده أو تؤدوا الجزية " .
وفي مسند الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وشكوه إلى أبي طالب فقال: يا بن أخي ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. قال: كلمة واحدة. قال: كلمة واحدة، لا إله إلا اللّه. قالوا: (أجَعَل اْلآلهَةَ إلهاً واحداً. إن هذا لَشَىْءٌ عُجَاب مَا سَمعْنا بهذا في الملة اْلآخرَة إِنْ هذا إِلا اختِلاقٌ ). قال: فنزل فيهم: (صَ الْقُرآنِ ذِي الذِكر)، إلى قوله: (اختلاقَ ).
وفي الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضْرَمِي). وذكر أبو عبيدة في كتاب ( الأموال ) عن الزهري قال: قبل رسول اللّه في الجزية من أهل البحرين، وكانوا مجوساً.
وفي سنن أبى داود من حديث أنس بن مالك رضي اللّه عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، فأخذوه فأتوا به فحقن له دمه، وصالحه على الجزية. وقال الزهري: أول ما أخذت الجزية من أهل نجران، وكانوا نصارى.
وفي صحيح البخاري عن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام، عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قِبَل اليسار
ممن تؤخذ الجزية
فاختلف الفقهاء فيمن تؤخذ منهم الجزية، بعد اتفاقهم على أخذها من أهل الكتاب ومن المجوس. فقال أبو حنيفة: تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم، ولا تؤخذ من عبدة الأوثان من العرب. ونص على ذلك أحمد في روايِة عنه.
وصيته صلى الله عليه وسلم أمراء الجيش
واحتج أرباب هذا القول على ذلك بحجج منها قوله في الحديث المتقدم: " وتؤدى إليكم بها العجم الجزية " ، واحتجوا بحديث بريدة الذي رواه مسلم في صحيحه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ( اغزوا باسم اللّه، في سبيا اللّه، قاتلوا من كفر باللّه. اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهما في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهما ذمة اللّه وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ).
وفي هذا الحديث أنواع من الفقة.
منها: وصية الإمام لنوابه وأمرائه وولاته بتقوى اللّه والإحسان إلى الرعية، فبهذين الأصلين يحفظ على الأمير منصبه، وتقر عينه به، ويأمن فيه من النكبات والغير. ومتى ترك هذين الأمرين أو أحدهما فلا بد أن يسلبه اللّه عزه، ويجعله عبرة للناس، فما إن سلبت النعم إلا بترك تقوى اللّه، والإساءة إلى الناس.
ومنها أن الجيش ليس لهم أن يغلوا من الغنيمة، ولا يغدروا بالعهد، ولا يمثلوا بالكفار، ولا يقتلوا من لم يبلغ الحلم.
ومنها: أن المسلمين يدعون الكفار - قبل قتالهم - إلى الإسلام. وهذا واجب إن كانت الدعوة لم تبلغهم، ومستحب إن بلغتهما الدعوة. هذا إذا كان المسلمون هم القاصدين للكفار؛ فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم من غير دعوة، لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم.
ومنها: إلزامهم بالتحول إلى دار الإسلام إذا كانوا مقيمين بين الكفار، فان أسلموا كلهم وصارت الدار دار الإسلام لم يلزموا بالتحول منها، بل يقيمون في ديارهم؛ وكانت دار الهجرة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دار الإسلام، فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها بلاد الإسلام، فلا يلزمهم الانتقال منها.
ومنها: أن الأعراب ليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنائم ما لم يقاتلوا، فإذا قاتلوا استحقوا من الغنيمة ما يستحقه من شهد الوقعة؛ وأما الأعراب الذين لا يقاتلون الكفار مع المسلمين فليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنيمة.
ومنها: أن الجزية تؤخذ من كل كافر: هذا ظاهر هذا الحديث، ولم يَستثن منه كافراً من كافر. ولا يقال: هذا مخصوص بأهل الكتاب خاصة، فإن اللفظ يأبى اختصاصهم بأهل الكتاب؛ وأيضاً فسرايا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجيوشه أكثر ما كانت تقاتل
بدة الأوثان من العرب. ولا يقال: إن القرآن يدل على اختصاصها بأهل الكتاب، فإن اللّه سبحانه أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المشركين حتى يعطوا الجزية، فيؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن ومن عموم الكفار بالسنة، وقد أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المجوس وهم عبَاد النار، لا فرق بينهم وبين عبدة الأوثان، ولا يصح أنهم من أهل الكتاب، ولا كان لهم كتاب ولو كانوا أهل كتاب عند الصحابة رضي اللّه عنهم لم يتوقف عمر رضي اللّه عنه في أمرهم، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) بل هذا يدل على أنهم ليسوا أهل كتاب.
وقد ذكر الله سبحانه أهل الكتاب في القرآن في غير موضع، وذكر الأنبياء الذين أنزل عليهم الكتب والشرائع العظام، ولم يذكر للمجوس - مع أنها أمة عظيمة من أعظم الأمم شوكة وعدداً وبأساً - كتاباً ولا نبياً، ولا أشار إلى ذلك، بل القرآن يدل على خلافه كما تقدم، فإذا أخذت من عباد النيران، فأي فرق بينهم وبين عباد الأوثان؟! فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذها من أحد من عباد الأوثان مع كثرة قتاله لهم.
قيل: أجل، وذلك لأن آية الجزية إنما نزلت عام (تَبُوك) في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن أسلمت جزيرة العرب، ولم يبق بها أحد من عبّاد الأوثان، فلما نزلت آية الجزية أخذها النبي صلى الله عليه وسلم ممن بقي على كفره من النصارى والمجوس. ولهذا لم يأخذها من يهود المدينة حين قدم المدينة، ولا من يهود خيبر لأنه صالحهم قبل نزول آية الجزية
ما أوقعه اليهود من الشبهة
أنه لا جزية على أهل خيبر والرد عليهم من وجوه
وهذه الشبهة هي التي أوقعت عند اليهود أن أهل خيبر لا جزية عليهم، وأنهم مخصوصون بذلك من جملة اليهود، ثم أكدوا أمرها بأن زوروا كتاباً فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الكلف والسخر والجزية، ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذ، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما. وهذا الكتاب كذب مختلق بإجماع أهل العلم من عشرة أوجه: منها: أن أحداً من علماء النقل والسير والمغازي لم يذكر أن ذلك وقع البتة مع عنايتهم بضبط ما هو دون ذلك بكثير.
الثاني: أن الجزية إنما نزلت بعد فتح خيبر، فحين صالح أهل خيبر لم تكن الجزية نزلت حتى يضعها عنهم.
الثالث: أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن أسلمَ بعد، فإنه إنما أسلم عام الفتح بعد خيبر.
الرابع: أن سعد بن معاذ توفى عام الخندق قبلَ فتح خيبر.
الخامس: أنه لم يكن في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر كلف ولا سخر حتى توضع عنهم.
السادس: أنه لم يكن لأهل خيبر من الحرمة ورعاية حقوق المسلمين ما يقتضي وضع الجزية عنهم، وقد كانوا من أشد الكفار عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأيُّ خير حصل بهم للمسلمين حتى توضع عنهم الجزية دون سائر الكفار؟ السابع: أن الكتاب الذي أظهروه وادعوا أنه بخط علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وهذا كذب قطعاً؛ وعداوةُ علي رضي الله عنه لليهود معروفة، وهو الذي قتل " مَرحَباً " اليهودي، وأثخن في اليهود يوم خيبر حتى كان الفتح على يديه.
الثامن: أن هذا لا يعْرفُ إلا من رواية اليهود، وهم القوم البهت، أكذب الخلق على اللّه وأنبيائه لمرسله، فكيف يصدقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخالف كتاب الله تعالى؟! التاسع: أن هذا الكتاب لو كان صحيحاً لأظهروه في أيام الخلفاء الراشدين وفي أيام عمر بن عبد العزيز، وفى أيام المنصور والرشيد، وكان أئمة الإسلام يستثنونهم ممن توضع عنهم الجزية، أو لذكر ذلك فقيه واحدٌ من فقهاء المسلمين. ولا يجوز على الأمة أن تجمع على مخالفة سنة نبيها، وكيف يكون بأيدي أعداء الله كتاب من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا يحتجون به كل وقت على من يأخذ الجزية منهم، ولا يذكره عالم واحد من علماء السلف؟! وإن اغتر به بعض من لا علم له بالسيرة والمنقول من المتأخريِن، شنع عليه أصحابه، وبينوا خطأه، وحذروا من سقطته.