البقرة 17 - 18
استوقد أوقد ووقود النار سطوعها والنار جوهر لطيف مضى حار محرق واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا فلما أضاءت ما حوله الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وهى فى الآية متعدية ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء وجواب فلما ذهب الله بنورهم وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل إذا وما موصولة وحوله نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير فلما أضاءت شيئا ثابتا حوله وجمع الضمير وتوحيد للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى والنور ضوء النار وضوء كل نير ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به والمعنى أخذ الله بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب ولم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله فلما أضاءت لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأسا ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا ألا ترى كيف ذكر عقيبة وتركهم فى ظلمات والظلمة عرض ينافى النور وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا تراءى فيها شبحان وهو قوله لا يبصرون وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد فاذا علق بشيئين كان مضمنا معنى صير فيجرى مجرى أفعال القلوب ومنه وتركهم فى ظلمات أصله هم فى ظلمات ثم دخل ترك فنصب الجزأين والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوى كأن الفعل غير متعد اصلا و إنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا فى ظلمة وحيرة نعم المنافق خابط فى ظلمات الكفر أبدا ولكن المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع بالكلمةالمجراة علىالسنتهم ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدى وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم فى الظلمات وتنكير النار للتعظيم صم بكم عمى أى هم صم كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وان ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كائما إيفت مشاعرهم وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم هم ليوث للشجعان وبحور الاسخياء إلا أن هذا فى الصفات وذلك فى الأسماء وما فى الآية تشبيه بليغ فى الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام فهم لا يرجعون لا يعودون إلى الهدى
البقرة 19
بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشئ وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين فى مكانهم لا يبرحون ولا يدرون ايتقدمون أم يتأخرون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإضاح شبه المنافق فى التمثيل الأول المستوقد نارا وإظهار الإيمان بالاضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيبهم من الإفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق والمعنى أو كمثل ذوى صيب فحذف مثل لدلالة العطف عليه وذوى لدلالة يجعلون عليه والمراد كمثل قوم اخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا فهذا تشبيه أشياء بأسشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح فى قوله وما يستوى الاعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ وقول امرئ القيس ... كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالى ...
بل جاء به مطويا ذكره على سنن الاستعارة والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه به بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرئ القيس وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامنت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها كقوله تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها الآية فالمراد تشبيه حال اليهود فى جهلها بما معها من التوراة بحال الحمار فى جهله بما يحمل من أسفار الحكمة وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب وكقوله واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كما ءانزلنا من السماء فالمراد قلة بقاء زهرة الحياة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفية فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيره شيئا واحدا فلا فكذلك لما وصف وقوع المنافقين فى ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدة الأمر بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها فى ظلمة الليل وكذلك من أخذته السماء فى الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخروهم يتدرجون فى مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ وعطف احد التمثيلين على الآخر بأولأنها فى أصلها لتساوى شيئين فصاعدا فى الشك عند البعض ثم استعيرت لمجرد التساوى كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان فى استصواب أن يجالسا وقوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا أى الآثم والكفور سيان فى وجوب العصاين فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين و أن الكيفيتين سواء فى استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل فبأيتهما مثلتها
البقرة 19
فأنت مصيب وإن مثلها بهما جميعا فكذلك والصيب المطر الذى يصوب أى ينزل ويقع ويقال للسحاب صيب أيضا وتنكير صيب لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار فى التمثيل الأول والسماء هذه المظلة وعن الحسن أنها موج مكفوف والفائدة فى ذكر السماء والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام اخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أى من أفق واحد من بين سائر الآفاق لأن كل أفق من آفاقها سماء ففى التعريف مبالغة كما فى تنكير صيب وتركيبه وبنائه وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر منها يأخذ ماءه وقيل أنه يأخذ من البحر ويرتفع ظلمات مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوى لكونه صفة لصيب بخلاف مالو قلت ابتداء فيه ظلمات ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه والرعد الصوت الذى يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه أو ملك يسوق السحاب والبرق الذى يلمع من السحاب من برق الشئ بريقا إذا لمع والضمير فى فيه يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكانا للظلمات فإن اريد به السحاب فظلماته إذا كان أسحم مطبقا سحمته وتطبيقه مضموما اليهما ظلمة الليل و اما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة اظلال غمامه مع ظلمة الليل وجعل الصيب مكانا للرعد والبرق على ارادة السحاب به ظاهر وكذا أن اريد به المطر لأنهما متلبسان به فى الجملة ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل يقال رعدت السماء رعدا وبرقت برقا فروعى حكم الاصل بأن ترك جمعهما ونكرت هذه الأشياء لأن المراد انواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف يجعلون اصابعهم فى آذانهم الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفا كما فى قوله أو هم قائلون لأن المحذوف باق معناه وإن سقط لفظه ولا محل ليجعلون لكونه مستأنفا لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلا قال فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون اصابعهم فى آذانهم ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقال يكاد البرق يخطف ابصارهم و إنما ذكر الأصابع ولم يذكر الانامل ورءوس الاصابع هى التي تجعل فى الآذان اتساعا كقوله فاقطعوا ايديهما والمراد إلى الرسغ ولان فى ذكر الاصابع من المبالغة ما ليس فى ذكر الأنامل و إنما لم يذكر الأصبع الخاص الذى تسد به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة من الصواعق متعلق بيجعلون أى من اجل الصواعق يجعلون أصابعهم فى آذانهم والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة نار قالوا تنقدح من السحاب إذا اصطكت أحرامه وهى نار لطيفة جديدة لا تمر بشئ إلا اتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت ويقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أى مات اما بشدة الصوت أو بالإحراق حذر الموت مفعول له والموت فساد بنية الحيوان أو