الحمد لله
هذه الآية من أعظم الأدلة على أن الشريعة الإسلامية هي الشريعة المناسبة للتكوين
النفسي والعقلي والجسدي للإنسان ، وأن أحد أهم قواعدها التي تقوم عليها مناسبة "
الطبيعة البشرية " المجبولة على الضعف والوهن مهما علت النفوس وتكبَّرت ، فهي في
حقيقتها ومآلها ضعيفة لا تقوى إلا على ما يناسبها ويشاكلها .
وبهذا كانت الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان ، فقد جاء قوله تعالى : (
وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) النساء/28، تذييلا وتبيينا لحكمته سبحانه وتعالى
في تشريع بعض الأحكام ، وأن سبب هذه التشريعات اليسيرة الرحيمة هو مناسبتها لطبيعة
الإنسان الضعيفة الفقيرة ، وهذا ما يتبين لمن يقرأ سياق الآيات الكريمات في قوله عز
وجل : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللَّهُ يُرِيدُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ
تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا . يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) النساء/26-28.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" قوله : ( وخلق الإنسان ضعيفا ) تذييل وتوجيه للتخفيف ، وإظهار لمزية هذا الدين ،
وأنه أليق الأديان بالناس في كل زمان ومكان ، ولذلك فما مضى من الأديان كان مراعى
فيه حال دون حال ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ) الآية في سورة الأنفال/66، وقد فسر بعضهم الضعف
هنا بأنه الضعف من جهة النساء ، قال طاووس ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر
النساء ، وليس مراده حصر معنى الآية فيه ، ولكنه مما روعي في الآية لا محالة ؛ لأن
من الأحكام المتقدمة ما هو ترخيص في النكاح " انتهى من " التحرير والتنوير " (5/22)
وهذا الذي اختاره العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله من حمل " الضعف " في الآية على
جميع أنواع الضعف البشري هو الأقوى والأنسب في التفسير ، وإلا فقد ذكر ابن الجوزي
رحمه الله ثلاثة أقوال في الآية فقال :
" في المراد بـ ( ضعْف الإنسان ) ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الضعف في أصل الخلقة ، قال الحسن : هو أنه خُلق من ماءٍ مهين .
والثاني : أنه قلة الصبر عن النساء ، قاله طاوس ، ومقاتل .
والثالث : أنه ضعف العزم عن قهر الهوى ، وهذا قول الزجّاج ، وابن كيسان " انتهى من
" زاد المسير " (1/395)
ولكن القاعدة المهمة في تفسير القرآن الكريم أنه كلما كان من الممكن حمل معاني
القرآن على العموم والشمول كان أقرب إلى الصواب ؛ وأن الأقوال إذا لم تكن متناقضة ،
وأمكن حمل الآية عليها جميعها كان أوفق في التفسير . يمكن مراجعة ذلك في كتاب "
قواعد الترجيح عند المفسرين " (ص/41-44).
يقول ابن عطية الأندلسي رحمه الله :
" المقصد الظاهر بهذه الآية أنها في تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك ،
وأن إخباره عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي : لمَّا علمنا ضعفكم عن
الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ، وكذلك قال مجاهد وابن زيد طاوس .
ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية في مخرج التفضل ؛ لأنها تتناول كل ما خفف الله تعالى
عن عباده ، وجعله الدين يسرا ، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما ، حسبما هو في
نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب " انتهى من " المحرر الوجيز " (2/40-41) .
ويقول ابن جزي الغرناطي رحمه الله :
" ( وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) قيل : معناه : لا يصبر على النساء ، وذلك
مقتضى سياق الكلام ، واللفظ أعم من ذلك " انتهى من " التسهيل " (1/188) .
ويقول ابن القيم رحمه الله – بعد أن
ذكر بعض أقوال السلف في تفسير الآية - :
" والصواب أَن ضعفه يعم هذا كله ، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر : فَإنه ضعيف البنية ،
ضعيف القوة ، ضعيف الإرادة ، ضعيف العلم ، ضعيف الصبر ، والآفات إليه مع هذا الضعف
أَسرع من السيل في الحدور " انتهى من " طريق الهجرتين " (1/228) .
ويقول العلامة السعدي رحمه الله :
" ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل
، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه ، ضعف البنية ، وضعف الإرادة ، وضعف
العزيمة ، وضعف الإيمان ، وضعف الصبر ، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه ما يضعف عنه وما
لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن " (ص/175) .
ولذلك فالأنسب في تفسير أوجُه " الضعف
البشري " في الآية الكريمة حملها على إطلاقها ، لتشمل جميع جوانب الضعف : النفسية ،
والبدنية ، والعقلية ، والعاطفية ، والتركيبية ، فالإنسان ضعيف النفس بسبب نوازع
الخير والشر المخلوقة فيه ، إلى جانب الوساوس والأهواء التي تعرض له أيضا ، وهو
ضعيف البدن أيضا بسبب ما يعرض له من الآفات والأسقام ، وبالمقارنة مع كثير من
المخلوقات عظيمة الخلق ، وهو ضعيف العقل بسبب قدراته المحدودة التي تخوله من النجاح
والإبداع ولكن في حدود المنظور في هذا الكون وما يمكن القياس عليه ، كما أنه ضعيف
في الجوانب العاطفية والشعورية ، فيتأثر أسرع تأثير بما يبكيه أو يفرحه أو يُجبِنُه
أو يُبخِله أو يشجعه أو يخوفه .
وللتوسع في شرح أنواع الضعف البشري يمكن مراجعة مقال رائع لفضيلة الدكتور عبد
الكريم بكار على الرابط الآتي :
http://www.saaid.net/Doat/bakkar/017.htm فلكل هذه الأوجه من الضعف والفقر شرع
الله عز وجل لنا ما يناسبنا ، وخفف عنا فلم يكلفنا فوق طاقتنا ، فكانت شريعتنا
شريعة التخفيف والتيسير ، كما قال سبحانه وتعالى : ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ) الأنفال/66.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما :
" ثَمَانِ آيَاتٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا
طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ ، أَوَّلُهُنَّ : (يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ ) النساء/26 ثَلَاثًا مُتَتَابِعَاتٍ ، وَالرَّابِعَةُ : ( إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ) النساء/31، وَالْخَامِسَةُ : ( إِنَّ اللهَ
لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ) النساء/40،
الْآيَةَ ، وَالسَّادِسَةُ : ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا ) النساء/110،
وَالسَّابِعَةُ : ( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) النساء/48
الْآيَةَ ، وَالثَّامِنَةُ : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) النساء/152 " الْآيَةَ " رواه البيهقي في "
شعب الإيمان " (9/346) .
والله أعلم .