فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)).
والفقه فى الدين هو فهم الكتاب والسنة على ما أراده الله بحسب الطاقة البشرية.
فجمعت ما تيسر لي في هذا الموضوع. وبما أن حكم بعض المسائل الفقهية يخفى على كثير من الناس، بل ربما يحصل خصام بين سائق السيارة وبعض الركاب من أجل النزول للصلاة في أول الوقت، وأكثرهم لا يدري أن الجمع جائز في السفر، بل هو السنة إذا جدّ به السير على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله. بما أن الأمر كذلك؛ رأيت أنْ أضمّ إلى هذه الفائدة الحديثية بعض الفوائد الفقهية وأنشرها بين الناس.
أسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
الجمع بين الصلاتين في السفر
1- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3ص236) مع "الفتح": حدثنا إسحاق قال أخبرنا عبدالصمد قال حدثنا حرب قال حدثنا يحيى قال حدثني حفص بن عبدالله بن أنس أن أنسًا رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كان يجمع بين الصّلاتين في السّفر يعني المغرب والعشاء.
تخريج الحديث: أخرجه عبدالرزاق (ج2 ص545)، وأحمد (ج3 ص138، 151) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (ج1 ص162).
2- قال البخاري رحمه الله تعالى (ج3 ص233): حدثنا علي بن عبدالله قال حدثنا سفيان قال سمعت الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير.
تخريج الحديث: أخرجه مسلم (ج5 ص214) مع النووي، ومالك في "الموطأ" من حديث نافع عن ابن عمر به (ج1 ص161) مع "تنوير الحوالك"، وابن الجارود ص
(87)، وابن خزيمة (ج2 ص81)، والدارمي (ج1 ص335)، وأحمد (ج2 ص7) من حديث نافع عن ابن عمر به، وص (8، 63، 102، 106، 148)، والنسائي (ج1 ص133) وابن أبي شيبة، وعبدالرزاق (ج2 ص544)، والطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص161)، والبيهقي (ج3 ص159)، وأبونعيم في "الحلية" (ج9 ص161)، والخطيب (ج7 ص27).
هذا وللحافظ العراقي رحمه الله كلام نفيس في شرح حديثي ابن عمر وأنس فدونكه، قال رحمه الله في كتابه "طرح التثريب في شرح التقريب" (ج3 ص121):
باب الجمع في السفر
عن سالم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير.
وعن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا عجل به السّير جمع بين المغرب والعشاء.
فيه فوائد:
الأولى: أخرجه من الطريق الأولى الشيخان والنسائي من طريق سفيان ابن عيينة بهذا اللفظ، والبخاري أيضًا من طريق شعيب بن أبي حمزة، ومسلم من طريق يونس بن يزيد بلفظ: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء)، ثلاثتهم عن الزهري، عن سالم.
وأخرجه الزهري1 من طريق كثير بن قاووند، عن سالم، عن أبيه في جمعه بين الظّهر والعصر، حين كان بين الصّلاتين بين المغرب والعشاء ، حين اشتبكت النجوم. وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((إذا حضر أحدكم الأمر الّذي يخاف فوته، فليصلّ هذه الصّلاة)).
وأخرجه من الطريق الثانية مسلم، والنسائيّ من طريق مالك، عن نافع.
وأخرجه مسلم أيضًا من طريق يحيى القطان، والترمذي من طريق عبدة ابن سليمان، كلاهما عن عبيدالله عن نافع: أنّ ابن عمر كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشّفق. ويقول: إنّ
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء. لفظ مسلم.
ولفظ الترمذي: إنّه استغيث على بعض أهله فجدّ به السّير، وأخّر المغرب حتّى غاب الشّفق، ثمّ نزل فجمع بينهما، ثمّ أخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يفعل ذلك إذا جدّ به السّير. وقال: حسن صحيح.
ورواه أبوداود من طريق أيوب، عن نافع: أنّ ابن عمر استصرخ على صفيّة وهو بمكّة، فسار حتّى غربت الشّمس وبدت النّجوم، فقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر، جمع بين هاتين الصّلاتين فسار حتّى غاب الشّفق، فنزل فجمع بينهما.
رواه النسائي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير، أو حزبه أمر، جمع بين المغرب والعشاء.
ومن طريق ابن جابر، عن نافع، عن ابن عمر في خروجه معه إلى صفية بنت أبي عبيد، وفيه: حتّى إذا كان في آخر الشّفق نزل فصلّى المغرب، ثمّ أقام العشاء وقد توارى الشّفق فصلّى بنا، ثمّ أقبل علينا فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به السّير صنع هكذا.
ومن طريق إسماعيل بن عبدالرحمن شيخ من قريش، عن ابن عمر في جمعه بين المغرب والعشاء حين ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل.
وأخرجه البخاري في (الحج والجهاد) في "صحيحه"، من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما بطريق مكّة، فبلغه عن صفيّة بنت أبي عبيد شدّة وجع، فأسرع السّير، حتّى كان بعد غروب الشّفق نزل فصلّى المغرب والعتمة، جمع بينهما، ثمّ قال: إنّي رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير أخّر المغرب وجمع بينهما.
الثانية: قوله في الرواية الأولى: (جدّ به السّير)، أي: اشتدّ به السير. قال في "المحكم": جدّ به الأمر، أي: اشتد.
وقال القاضي عياض في "المشارق": جدّ به السّير، أي أسرع وعجل في الأمر الذى يريده. انتهى.
وما ذكرته أولى لأنّ الذي في الحديث نسبة الجدّ إلى السير، وفي كلام القاضي نسبة الجد إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاللفظ الواقع في الحديث إمّا أن يراد به الاشتداد كما نقلته عن صاحب "المحكم"، وإمّا أن ينسب الجد إلى السير على سبيل التوسع، والإسراع في الحقيقة إنما هو من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويكون هذا على حد قولهم: (نهاره صائم، وليله قائم)، فينسب الصيام إلى النهار، والقيام إلى الليل لوقوعه فيهما، وفي الحقيقة إنما هو من الفاعل. فمعنى قوله: (جدّ به السير) جدّ في السير.
ويوافق هذا قوله في رواية أخرى: إذا جدّ في السير.
قال في "الصحاح": الجدّ: الاجتهاد في الأمور، تقول منه: جدّ في الأمر يجدّ ويجدّ، أي: بكسر الجيم وضمها، وأجدّ في الأمر مثله. قال الأصمعي: يقال: إنّ فلانًا لجادّ مجدّ باللغتين جميعًا. وقال في "المحكم": جدّ في أمره يجدّ ويجدّ جدًّا وأجدّ حقق. وقال في "المشارق": الجدّ المبالغة في الشيء. انتهى.
ويأتي هذان الاحتمالان في قوله في الرواية الثانية: (عجل به السير). إمّا أن يضمّن (عجل) معنى اشتد، وإمّا أن تكون نسبة العجل الى إلسير مجازًا وتوسعًا. والأصل: (عجل في السير).
الثالثة: فيه جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في هذه الحالة، وهي الجدّ في السفر والاستعجال فيه.
وتقدم من "سنن النسائي": الجمع بين الظهر والعصر أيضًا، وفي
"الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر ثمّ ركب.
وفي رواية للبخاري: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السّفر.
وفى رواية لمسلم: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصّلاتين في السّفر، أخّر الظّهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما.
وفي رواية له: إذا عجل عليه السّير، يؤخّر الظّهر إلى أوّل وقت العصر، فيجمع بينهما ويؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشّفق.
وفي "صحيح البخاري" تعليقًا، و"صحيح مسلم" موصولاً عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين صلاة الظّهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء. لفظ البخاري.
ولم يقل مسلم: إذا كان على ظهر سير، وزاد: (قال سعيد بن جبير: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمّته). فزاد في حديثي أنس وابن عباس: الجمع بين الظهر والعصر، وأما اقتصار ابن عمر رضي الله عنهما في الرواية المشهورة عنه على ذكر الجمع بين المغرب والعشاء فسببه أنه ذكر ذلك جوابًا لقضية وقعتْ له، فإنه استصرخ على زوجته فذهب مسرعًا، وجمع بين المغرب والعشاء، فذكر ذلك بيانًا لأنه فعله على وفق السنة. فلا دلالة فيه لعدم الجمع بين الظهر والعصر. فقد رواه أنس وابن عباس ومعاذ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
وفي "صحيح مسلم" وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلّي الظّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا. وفي لفظ له: جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك بين الظّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
زاد في "الموطأ" و"سنن أبي داود" و"النسائي" و"صحيح ابن حبان": فأخّر الصّلاة يومًا، ثمّ خرج فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ دخل، ثمّ خرج فصلّى المغرب والعشاء جميعًا. قال ابن عبدالبر: هذا حديث صحيح ثابت الإسناد.
وفي "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"صحيح ابن حبان" وغيرها، عن معاذ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشّمس، أخّر الظّهر إلى العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشّمس عجّل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء، فصلاها مع المغرب. قال الترمذي: حديث حسن. وقال البيهقي: هو محفوظ صحيح. انتهى.
ففي حديث معاذ الجمع بين الظهر والعصر أيضًا، ولم يقيد ذلك بأن يعجل به السفر بل صرّح في رواية "الموطأ" وأبي داود وغيرهما بالجمع وهو غير سائر، بل نازل ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعًا، ثم ينصرف إلى خبائه.
قال الشافعي رحمه الله في "الأم" بعد ذكره هذه الرواية: هذا وهو نازل غير سائر لأن قوله: (دخل ثم خرج)، لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافرًا. انتهى.
وفي رواية أبي داود والترمذي وغيرهما التصريح بجمع التقديم والتأخير فى الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء، وقد كانت غزوة تبوك في أواخر الأمر سنة تسع من الهجرة.
وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة على أقوال:
أحدها: جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بعذر السفر، جمع تقديم في وقت الأولى منهما، وجمع تأخير في وقت الثانية منهما. وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، والجمهور، إلا أن المشهور من مذهب مالك اختصاص الجمع بحالة الجد فى السير، لخوف فوات الأمر أو لإدراك مهمّ، وبه قال أشهب. وقال ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ: إنّ الجدّ لمجرد قطع السفر مبيح للجمع.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" الجمع بين الصلاتين في السفر عن سعد ابن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وأسامة بن زيد، وغيرهم. وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن عمر، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وأبي ثور، وإسحاق، قال: وبه أقول.
وقال البيهقي: الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، مع الثابت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع عليه المسلمون من جميع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة، وروى في ذلك عن عمر، وعثمان، ثم روى عن زيد بن أسلم، وربيعة، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد أنّهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر، إذا زالت الشمس.
وحكاه ابن عبدالبر عن عطاء بن أبي رباح، وسالم بن عبدالله، وجمهور علماء المدينة.
وحكاه ابن بطال عن جمهور العلماء. وحكاه ابن قدامة في "المغني" عن أكثر أهل العلم.
وحكاه أبوالعباس القرطبي عن جماعة السلف وفقهاء المحدثين.
القول الثاني: اختصاص ذلك بحالة الجد في السفر لخوف فوات أمر أو لإدراك مهم، وهو المشهور عن مالك، كما تقدم. وتمسك هؤلاء بظاهر حديث ابن عمر هذا، وجوابه أن في حديث غيره زيادة يجب الأخذ بها وهي الجمع من غير جدّ في السفر.
قال ابن عبدالبر بعد ذكر حديث معاذ الذي سبق ذكره من "الموطأ" وغيره: في هذا أوضح الدلائل، وأقوى الحجج في الرد على من قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير. وهو قاطع للإلتباس، قال: وليس فيما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء ما يعارضه لأنه إذا كان له الجمع نازلاً غير سائر، فالذي يجد به السير أحرى بذلك، وإنما يتعارضان لو كان في أحدهما أنه قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا أن يجد به السير. وفي الآخر: أنه جمع نازلاً غير سائر، فإما أن يجمع وقد جدّ به السير، ويجمع وهو نازل لم يجد به السير. فليس هذا بمتعارض عند أحد له فهم.
قال: وقد أجمع المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، فكل ما اختلفت فيه من مثله فمردود إليه. وروى مالك عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبدالله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك. ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة. فهذا سالم قد نزع بما ذكرنا وهو أصل صحيح لمن ألهم رشده، ولم تمل به العصبية إلى المعاندة. انتهى.
وحكى أبوالعباس القرطبي عدم اشتراط الجد في السفر عن جمهور السلف، وعلماء الحجاز، وفقهاء المحدثين، وأهل الظاهر.
القول الثالث: كالذي قبله في الاختصاص بحالة الجدّ في السفر لكن لا يختص ذلك بأن يكون سبب الجد خوف فوات أمر أو إدراك مهم، بل لو كان الجد لمجرد قطع المسافة كان الحكم كذلك، وهذا قول جماعة من المالكية، كما تقدم.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن أسامة بن زيد أنّه كان إذا عجل به السّير جمع بين الصّلاتين. وعن سالم بن عبدالله بن عمر أنّه سئل عن الجمع بين الصّلاتين في السّفر فقال: لا، إلاّ أن تعجلني سير.
وحكى ابن عبدالبر عن الليث بن سعد أنه لا يجمع إلا من جدّ به السير. وقال أبوبكر بن العربي: إن قول ابن حبيب هذا هو قول الشافعي لأن السفر نفسه إنما هو لقطع الطريق. انتهى.
وفيما قاله نظر فإنّ الماكث في المنْزلة ليس قاطعًا للطريق، وكذلك من هو سائر إلا أنه لا استعجال به، بل هو يسير على هينته، فهو أن يجوّز الشافعي لهما الجمع ولا يجوّزه لهما ابن حبيب ومن قال بقوله، ولعل صاحب هذا القول أسعد بحديث ابن عمر من القول الذي قبله، فإن الذي في حديث ابن عمر اعتبار الجد في السفر من غير سبب مخصوص لذلك، ولا يقال: إنما يكون الجد لخوف فوات أمر أو إدراك مهم، فقد يكون الجد لمجرد قطع المسافة والاستراحة من متاعب السفر. وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجّل إلى أهله?))، لكن زاد حديث معاذ على ذلك ببيان الجمع في زمن الإقامة التي لا تقطع اسم السفر فوجب الأخذ به كما تقدم. والله أعلم.
القول الرابع: أنه لا يجمع بين الصلاتين إلا من عذر، رواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري، وعمر بن عبدالعزيز.
وحكاه ابن عبدالبر عن الأوزاعي وقال: لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به السير جمع. قال: وعن الثوري نحو هذا، وعنه أيضًا ما يدل على الجواز، وإن لم يجد السير. انتهى.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن جابر بن زيد: ما أرى أنْ يجمع بين الصّلاتين إلاّ من أمر. فجعل صاحب هذا القول الجد في السير مثالاً للعذر، والاعتبار بالعذر بأيّ وجه كان، ويقول الجمهور: السفر نفسه عذر ومظنة للرخصة فنيط الحكم بمجرده. والله أعلم.
القول الخامس: منع الجمع بعذر السفر مطلقًا وإنما يجوز للنسك بعرفة ومزدلفة، وهذا قول الحنفية، بل زاد أبوحنيفة على صاحبيه وقال: لا يجمع للنسك إلا إذا صلى في الجماعة، فإن صلى منفردًا صلى كل صلاة في وقتها. وقال أبويوسف ومحمد: المنفرد في ذلك كالمصلي جماعة.
وحكى ابن قدامة في "المغني" هذا عن رواية ابن القاسم عن مالك واختياره. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن إبراهيم النخعي قال: كان الأسود وأصحابه ينْزلون عند وقت كل صلاة في السفر، فيصلون المغرب لوقتها، ثم يتعشون، ثم يمكثون ساعة، ثم يصلون العشاء.
وعن الحسن وابن سيرين أنّهما قالا: ما نعلم من السنة الجمع بين الصلاتين في حضر ولا سفر، إلا بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع. وعن عمر وأبي موسى أنّهما قالا: الجمع بين الصلاتين بغير عذر من الكبائر. وروي هذا مرفوعًا من حديث ابن عباس، رواه الترمذي، وهو ضعيف.
وأجاب هؤلاء عن أحاديث الجمع بأن المراد بها أن يصلي الأولى في آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها وهذا مردود بوجهين:
أحدهما: أنه وردت الروايات مصرّحةً بالجمع في وقت إحداهما. فمنها ما تقدم من "صحيح مسلم" من حديث ابن عمر: جمع بيْن المغْرب والعشاء بعْد أن يغيب الشّفق. ومنها قوله في حديث أنس: أخّر الظّهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما. وحديث معاذ صريح في جمعي التقديم والتأخير في الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء. وهذه الأحاديث لا يمكن معها التأويل الذي ذكروه.
الثاني: أن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه، لكان أشد ضيقًا وأعظم حرجًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأنّ الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاه طرفي الوقتين، بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها، ومن تدبر هذا وجده واضحًا كما وصفنا، ثم لو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، والعشاء والصبح. ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك، والعمل بالأحاديث على الوجه السابق إلى الفهم منها أولى من هذا التكلف الذى لا حاجة إليه.
واحتج هؤلاء بما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قطّ صلاةً لغير وقتها إلا ّالمغرب والصّبح بالمزدلفة، فإنّه أخّر المغرب حتّى جمعها مع العشاء، وصلّى الصّبح قبل الفجر. وقالوا: إن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر واحد، والجواب عن حديث ابن مسعود أنه متروك الظاهر بالإجماع من وجهين:
أحدهما: أنه قد جمع بين الظهر والعصر بعرفة بلا شك، وقد ورد التصريح بذلك في بعض طرق حديث ابن مسعود فلم يصح هذا الحصر.
وثانيهما: أنه لم يقل أحد بظاهره في إيقاع الصبح قبل الفجر، والمراد أنه بالغ في التعجيل، حتى قارب ذلك ما قبل الفجر، ثم إنّ غير ابن مسعود حفظ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة ومزدلفة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ولم يشهد.
وقد روى أبويعلى الموصلي في "مسنده" بإسناد جيد2 عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين الصّلاتين في السّفر.
والجواب عن قولهم: لا يترك المتواتر بالآحاد، بأنّا لم نتركها وإنما خصصناها، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز بالإجماع وقد جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إجماعًا، فتخصيص السنة بالسنة أولى بالجواز، والله أعلم.
وذكر الشافعي قول عمر: جمع الصلاتين من غير عذر من الكبائر. وقال: العذر يكون بالسفر والمطر. وليس هذا ثابتًا عن عمر وهو مرسل.
القول السادس: جواز التأخير ومنع جمع التقديم. وهو رواية عن أحمد. قال ابن قدامة: وروي نحوه عن سعد، وابن عمر، وعكرمة. قال ابن بطال: وهو قول مالك في "المدونة"، وبهذا قال ابن حزم الظاهري، بشرط الجد في السفر، واعتماد هؤلاء على أن جمع التقديم لم يذكر في حديثي ابن عمر وأنس وإنما ذكر فيهما جمع التأخير، وتأكد ذلك بقوله في حديث أنس: فإن زاغت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر، ثمّ ركب. ولم يذكر صلاة العصر.
وجوابه: أنه لا يلزم من عدم ذكرها أن لا يكون صلاها مع الظهر. وقد ورد التصريح بجمع التقديم في حديث معاذ وغيره، فوجب المصير إليه، وحمل بعضهم حديث أنس على أنّ معناه صلى الظهر والعصر، قال: لأنه عليه السلام إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس، فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إن زاغت الشمس، ذكره ابن بطال.
وقد ورد التصريح بذلك من حديث أنس بسند لا بأس به في "معجم الطبراني الأوسط"، ولفظه: إذا كان في سفر فزاغت الشّمس جمع بينهما في أوّل وقت العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء.
وحكى ابن العربي أن اللؤلؤي حكى عن أبي داود أنه قال: ليس في تقديم الوقت حديث قائم. ?. وليس ذلك في روايتنا "لسنن أبي داود" من طريق اللؤلؤي، وضعف ابن حزم حديث معاذ في جمع التقديم، وقد بسطت الرد عليه في ذلك في كراسة كتبتها قديمًا سميتها "الدليل القويم على صحة جمع التقديم".
الرابعة: غاية ما دلّ عليه هذا الحديث جواز الجمع، فأما رجحانه وكونه أفضل3 من إيقاع كل صلاة في وقتها، فلا دلالة فيه عليه، فلعله عليه الصلاة والسلام بيّن بذلك الجواز أو فعله على سبيل الترخيص والتوسع، وإن كان الأفضل خلافه. وقد صرح أصحابنا الشافعية بذلك، وقالوا: إنّ ترك الجمع أفضل. وقال الغزالي: إنه لا خلاف في المذهب فيه.
وعللوه بالخروج من الخلاف فإن أباحنيفة وجماعة من التابعين لا يجوزونه، وعن أحمد بن حنبل في ذلك روايتان، وزاد مالك رحمه الله على ما قاله أصحابنا من أنّ الأفضل ترك الجمع فقال: إن الجمع مكروه. رواه المصريون عنه، كما قاله ابن العربي، واحتجّ له بتعارض الأدلة وقال ابن شاس في "الجواهر": وقع في "العتبية": (قال مالك: أكره جمع الصلاتين في السفر)، فحمله بعض المتأخرين على إيثار الفضل لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه. وقال ابن الحاجب في "مختصره": لا كراهة على المشهور. وحكى أبوالعباس القرطبي عن مالك رواية أخرى أنه كره الجمع للرجال دون النساء. وقال الخطابي: كان الحسن ومكحول يكرهان الجمع في السفر بين الصلاتين. انتهى.
فإن أراد بالكراهة التحريم، فهو القول الخاص المحكي في الفائدة الثالثة. وإن أراد التنْزيه فهو موافق لهذا المحكي عن مالك.
الخامسة: لم يبيّن في حديث ابن عمر ولا في غيره من الأحاديث هل كان يفعل ذلك في كل سفر، أو كان يخص به السفر الطويل، وهو سفر القصر، لكن قد يقال: إن الظاهر من الجدّ في السفر أنه إنما يكون فى الطويل، والحقّ أن هذه واقعة عين محتملة، فلا يجوز الجمع في السفر القصير، مع الشك في ذلك. ومذهب مالك أنه لا يختص ذلك بالطويل، ومذهب أحمد بن حنبل اختصاصه به، وللشافعي في ذلك قولان أصحهما اختصاصه بالطويل والله أعلم. ? كلامه رحمه الله.
ولنرجع إلى سرد الأدلة بأسانيدها إن شاء الله:
3- مسلم (ج5 ص215 و216): حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- حدثنا قرة حدثنا أبوالزبير حدثنا سعيد بن جبير حدثنا ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الصّلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظّهر والعصر، والمغْرب والعشاء، قال سعيد: فقلْت لابن عبّاس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحْرج أمّته.
تخريج الحديث: ذكره ابن خزيمة (ج2 ص82) عقب حديث فيه الجمع، ثم قال بمثل ذلك. وأبوداود (ج1 ص276)، وأحمد (ج1 ص217و351)، والبخاري تعليقًا (ج3 ص234) قال: وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وقد وصله البيهقي (ج3 ص164).
4- مالك في "الموطأ" (ج1 ص160): عن داود بن الحصين، عن الأعرج ، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يجْمع بين الظّهر والعصر في سفره إلى تبوك.
تخريج الحديث: أخرجه عبدالرزاق (ج2 ص545). والحديث رجاله رجال الصحيح إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، كما في "تنوير الحوالك". وقد قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (ج2 ص337): حديث رابع لداود مرسل من وجه، متصل من وجه صحيح، ثم ذكره مرسلاً ومتصلاً. فهو رحمه الله في الترجمة يحكم له بالصحة.
5- مسلم (ج5 ص216): حدثني يحيى بن حبيب حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبوالزبير حدثنا عامر بن واثلة أبوالطفيل حدثنا معاذ بن جبل، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزْوة تبوك بيْن الظّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، قال: فقلْت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحْرج أمّته.
تخريج الحديث: أخرجه ابن خزيمة (ج2 ص81)، وابن حبان (ج3 ص89)، وعبدالرزاق (ج2 ص545)، والطيالسي (ج1 ص126) من "ترتيب المسند"، وابن أبي شيبة (ج2 ص456)، وابن ماجة (ج1 ص340)، وأحمد ( ج5 ص229 و230 و236)، والبيهقي (ج3 ص 162)، والطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص160).
6- قال الإمام أبوبكر بن أبي شيبة في "المصنف" (ج2 ص458): حدثنا بكر بن عبدالرحمن قال ثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى عن أبي قيس، عن هزيل، عن عبدالله بن مسعود، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الصّلاتين في السّفر.
هذا حديث ضعيف، في سنده محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى القاضي وقد ضعّف من أجل سوء حفظه.
تخريج الحديث: أخرجه أبويعلى في "المسند" (ج9 ص284) وسقط من سنده هزيل الراوي عن ابن مسعود، جزمنا بأنه سقط، لأن الحديث مرويّ من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة.
وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (ج1 ص330).
وأخرجه أبوداود الطيالسي ص (49)، قال: حدثنا شعبة، عن أبي قيس قال: سمعت الهزيل، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فأخّر الظّهر، وعجّل العصر، وجمع بينهما، وأخّر المغرب، وعجّل العشاء، وجمع بينهما.
لم يقل شعبة فيه: (عن عبدالله). قال: وروى عن ابن أبي ليلى أنه وصله إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.?
قال أبوعبدالرحمن: فإرسال شعبة للحديث يزيد حديث ابن أبي ليلى الموصول ضعفًا، إذ وصْله يعتبر منكرًا، وأما قول الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص159): (إنّ رجال أبي يعلى رجال الصحيح) فوهم واضح، لأنّ محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى ليس من رجال الصحيح كما في "تهديب التهذيب" و"الميزان"، وما رمزا له إلا "بالسنن".
?
جواز الجمع بين الصلاتين وإن لم يجد به السير
تقدمت الأحاديث الدالة على جواز الجمع، وسيأتي مزيد لها إن شاء الله، وقد ورد في السنة المطهرة مايدل على جواز الجمع وإن كان نازلاً.
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج15 ص40): حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي حدثنا أبوعلي الحنفي حدثنا مالك وهو ابن أنس عن أبي الزبير المكي أنّ أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبل أخبره قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصّلاة، فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتّى إذا كان يومًا أخّر الصّلاة، ثمّ خرج فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ دخل، ثمّ خرج بعد ذلك فصلّى المغرب والعشاء جميعًا، ثمّ قال: ((إنّكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنّكم لن تأتوها حتّى يضحي النّهار، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئًا حتّى آتي))، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشّراك تبضّ4 بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
(هل مسستما من مائها شيئًا))؟ قالا: نعم، فسبّهما النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً، حتّى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه يديه ووجهه، ثمّ أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر، أو قال: غزير -شكّ أبوعليّ أيّهما قال- حتّى استقى النّاس، ثمّ قال: ((يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا)).
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه ابن خزيمة (ج2 ص82)، وابن حبان (ج3 ص92)، والنسائي (ج1 ص229)، ومالك (ج1 ص160)، والدارمي (ج1 ص356)، والشافعي في "الأم" (ج1 ص66)، وعبدالرزاق (ج2 ص545)، وأحمد (ج5 ص237)، والبيهقي (ج3 ص162).
بعض هؤلاء اقتصر على حكم الجمع بين الصلاتين وهو نازل، وبعضهم ذكر الحديث بتمامه. ونقل الحافظ العراقي رحمه الله في "شرح التقريب" (ج3 ص124و 125) كلامًا حسنًا، وقد تقدم، والحمد لله.
جمع التأخير
1- قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى (ج3 ص226): حدثنا أبواليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج5 ص214)، وابن خزيمة من حديث نافع بمعناه، والنسائي (ج1 ص229)، والترمذي من حديث نافع به، والشافعي في "الأم" (ج1 ص67) من حديث إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي ذئب الأسدي عن ابن عمر به، وعبدالرزاق
(ج2 ص546، 547) من طرق عن نافع به، وأحمد (ج2 ص4، 12، 51، 54، 77، 85، 150)، والطحاوي (ج1 ص162)، والدارقطني (ج1 ص319)، والبيهقي
(ج3 ص159 و160).
وجملة الذين رووه عن عبدالله بن عمر فيما اطلعت عليه:
(1) سالم (2) نافع (3) إسماعيل بن عبدالرحمن
(4) أسلم مولى عمر (5) عبدالله بن دينار والمعنى واحد.
2- قال البخاري رحمه الله (ج1 ص236): حدثنا حسان الواسطي قال حدثنا الفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما، وإذا زاغت صلّى الظّهر ثمّ ركب.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج5 ص214)، وابن خزيمة (ج2 ص83) ، وابن حبان (ج3 ص90) وعنده: (وإذا زاغتْ قبل أن يرتحل صلّى ثم رحل)، وأبوداود (ج1 ص278)، والنسائي (ج1 ص229)، وأحمد (ج3 ص247و265)، وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص321)، والدارقطني (ج1 ص390)، والبيهقي (ج3 ص161).
3- قال البخاري رحمه الله (ج4 ص270): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما أنه يقول: دفع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من عرفة، فنزل الشّعب، فبال ثمّ توضّأ، ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصّلاة؟ فقال:
((الصّلاة أمامك)) فجاء المزدلفة نزل فتوضّأ فأسبغ، ثمّ أقيمت الصّلاة، فصلّى المغرب، ثمّ أناخ كلّ إنسان بعيره في منْزله، ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى، ولم يصلّ بينهما.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج9 ص3) وأبوداود (ج1 ص447) والنسائي (ج5 ص209).
هذا والأحاديث في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمزدلفة عن جماعة من الصحابة منهم: أبوأيوب وابن عمر كما في "الصحيح" فشهرتها تغني عن تخريجها.
جمع التقديم
4- قال الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (ج4 ص260): باب الجمع بين الصّلاتين بعرفة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته الصّلاة مع الإمام جمع بينهما.
وقال الليث5: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم أنّ الحجّاج بن يوسف عام نزل بابن الزّبير رضي الله عنهما، سأل عبدالله رضي الله عنه كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السّنّة فهجّر بالصّلاة يوم عرفة، فقال عبدالله بن عمر: صدق، إنّهم كانوا يجمعون بين الظّهر والعصر في السّنّة. فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال سالم: وهل تتّبعون في ذلك إلا سنّته؟.
5- أبوداود (ج1 ص445): حدثنا أحمد بن حنبل ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني نافع، عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منًى حين صلّى الصّبح صبيحة يوم عرفة، حتّى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منْزل الإمام الّذي ينْزل به بعرفة، حتّى إذا كان عند صلاة الظّهر راح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مهجّرًا، فجمع بين الظّهر والعصر، ثمّ خطب النّاس، ثمّ راح فوقف على الموقف من عرفة.
هذا حديث حسن لتصريح ابن إسحاق بالتحديث.
6- قال الإمام مسلم في "صحيحه" (ج8 ص170): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم قال أبوبكر حدثنا حاتم ابن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبدالله. وذكر الحديث وفيه صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيه: حتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطْن الوادي فخطب النّاس -وذكر الخطبة، وبعدها:- فأذّن ثمّ أقام فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئًا. وذكر الحديث.
فلو لم يكن في الباب إلا هذه الأحاديث لكانت كافية في جمع التقديم، كيف وقد تقدم عمومات في الفصل الأول. وستأتي أحاديث صريحة إن شاء الله في ذلك.
7- قال الإمام أحمد بن الحسين البيهقي رحمه الله في "سننه" (ج3 ص162): حدثنا أبوعمرو الأديب حدثنا أبوبكر الإسماعيلي أنبأ جعفر الفريابي حدثنا إسحاق بن راهويه أنبأ شبابة بن سوار عن ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا كان في سفر فزالت الشّمس صلّى الظّهر والعصر جميعًا ثمّ ارتحل.
قال الحافظ في "التلخيص" (ج2 ص49): وإسناده صحيح قاله النووي. وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق.
وعزاه في "بلوغ المرام" إلى أبي نعيم في "المستخرج" ثم قال في "التلخيص" بعد قوله (في ذهني أنّ أبا داود أنكره على إسحاق): ولكن له متابع رواه الحاكم في "الأربعين" عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغاني عن حسان بن عبدالله، عن المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما فإن زاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر، ثمّ ركب.
وهو في "الصحيحين" من هذا الوجه بغير هذا السياق وليس فيهما: (والعصر)، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه، والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في "المستدرك". ?
وقال في "بلوغ المرام": وللحاكم في "الأربعين" بإسناد صحيح، فذكره، وهذا يدل على جزمه بصحة ما في "الأربعين" للحاكم.
وأما في "الفتح" (ج3 ص237) فقد تردد في ثبوتها، فلعله اطلع على سندها بعد ذلك بدليل جزمه في "بلوغ المرام" وفي "التلخيص". ثم قال في
"التلخيص": وله طريق رواه الطبراني في "الأوسط".
حدثنا محمد بن إبراهيم بن نصر بن شبيب الأصبهاني حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا محمد بن سعد ثنا ابن عجلان عن عبدالله بن الفضل، عن أنس بن مالك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا كان في سفر فزاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر جميعًا، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس جمع بينهما في أوّل العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء. وقال: تفرد به يعقوب بن محمد6.
8- قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج1 ص386): حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشّمس، أخّر الظّهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشّمس، عجّل العصر إلى الظّهر، وصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب.
قال: وفي الباب عن عليّ، وابن عمر، وأنس، وعبدالله بن عمرو، وعائشة، وابن عبّاس، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبدالله.
قال أبوعيسى: وروى عليّ بن المديني عن أحمد بن حنبل عن قتيبة هذا الحديث، وحديث معاذ حديث حسن غريب تفرد به قتيبة عن الليث، ولا نعرف أحدًا رواه عنه غيره، وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ حديث غريب. والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظّهر والعصر وبين المغرب والعشاء. رواه قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد عن أبي الزبير المكي.?
تخريج الحديث:
أخرجه أبوداود (ج1 ص278)، وقال: لم يرو هذا إلا قتيبة وحده. وابن حبان
(ج3 ص91)، وقال عقبه: سمعت محمد بن إسحاق الثقفي يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: عليه علامة الحفاظ، كتبوا عني هذا الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والحميدي، وأبوبكر بن أبي شيبة، وأبوخيثمة، حتى عدّ سبعة7.
وأخرجه أحمد (ج5 ص241)، والدارقطني (ج1 ص392)، والبيهقي (ج3 ص163) وذكر عقبه ما سنذكره إن شاء الله من كلام
البخاري رحمه الله، والطبراني في "الصغير" (ج ص234) وقال: لا يروى هذا الحديث عن معاذ إلا بهذا الإسناد تفرد به قتيبة.
فائدة:
قال المباركفوري رحمه الله في حديث عبد الله بن عمرو: فلينظر من أخرجه؟ فوجدته في مسند أحمد (ج2 ص181) و ص(204)، وفي
"مصنف ابن أبي شيبة" (ج2 ص458) من طريق حجاج أيضًا. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص108): فيه الحجاج بن أرطأة وفيه كلام.
الطاعنون في حديث قتيبة
1- تقدم قول الترمذي رحمه الله تعالى: والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير إلى آخر كلامه رحمه الله.
2- ذكر الحافظ في "التلخيص" (ج2 ص49) أن أبا داود قال: إنه حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم.?
وأقول: ينظر في صحة هذا عن أبي داود فإن الأحاديث الثابتة في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم عرفة في الصحيحين وغيرهما.
3- قال الحافظ في "التلخيص": وقال أبوسعيد بن يونس: لم يحدثْ بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه، فغير بعض الأسماء وإن موضع يزيد بن حبيب، أبوالزبير.
4- الحاكم أبوعبدالله جعله مثالاً للشاذ، فقال رحمه الله بعد ذكره بالسند المتقدم: هذا حديث رواية أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن لا نعرف له علة نعلله بها، ولو كان الحديث عند الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث، ولو كان عند يزيد بن أبي حبيب عن أبي الزبير لعللنا به، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولاً، ثم نظرنا فلم نجدْ ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل روايةً، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عند أحد ممن رواه عن معاذ غير8 أبي الطفيل فقلنا: الحديث شاذ. ثم ذكر نحو ما تقدم عن ابن حبان من أنه كتب هذا الحديث عن قتيبة سبعة وأن علامتهم عليه، ثم قال: قائمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبًا من إسناده ومتنه ثم لم تبلغنا عن واحد منهم أنه ذكر للحديث علة.
وقد قرأ علينا أبوعلي الحافظ هذا الباب، وحدثنا به عن أبي عبدالرحمن النسائي وهو إمام عصره عن قتيبة بن سعيد، ولم يذكر أبوعبدالرحمن ولا أبوعلي للحديث علة فنظرنا فإذا الحديث موضوع وقتيبة بن سعيد ثقة مأمون.
حدثني أبوالحسن محمد بن موسى بن عمران الفقيه قال: حدثنا محمد ابن إسحاق بن خزيمة قال سمعت صالح بن حفصويه النيسابوري قال أبوبكر وهو صاحب حديث يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني9.
قال البخاري: وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ.?
5- ابن أبي حاتم قال رحمه الله في "العلل" (ج1 ص91): سمعت أبي يقول: كتبت عن قتيبة حديثًا عن الليث بن سعد لم أصبه بمصر عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه كان في سفر فجمع بين الصّلاتين.
وقال أبي: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث.
حدثنا أبوصالح: قال حدثنا الليث عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث.
6- الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ذكر الحديث بأسانيد إلى قتيبة ثم ذكر كلام البخاري من طريق الحاكم ثم عقّبه بقوله: قلت: لم يرو حديث يزيد بن حبيب عن أبي الطفيل عن الليث غير قتيبة وهو منكر جدًا من حديثه ويرون أن خالدًا المدائني أدخله على الليث وسمعه قتيبة معه فالله أعلم.? (ج12 ص467).
7- الحافظ أبومحمد علي بن أحمد بن حزم رحمه الله قال في
"المحلى" (ج3 ص174) بعد ذكره هذا الحديث من طريق الليث بن سعد به: فإن هذا الحديث أردى حديث في الباب لوجوه، أولها: أنه لم يأت هكذا إلا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، ولا يعلم أحد من أصحاب الحديث ليزيد سماعًا من أبي الطفيل. والثاني: أن أبا الطفيل10 صاحب راية المختار، وذكر أنه كان يقول بالرجعة. والثالث: أننا روينا عن محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف "الصحيح" أنه قال: قلت لقتيبة... وذكر القصة المتقدمة.
8- الشافعي رحمه الله: قال رحمه الله: ليس الشاذ من الحديث ما يرويه الثقة ولا يرويه غيره، ولكن الشاذ ما يرويه الثقة ويخالفه عمل الناس مثل حديث معاذ في غزوة تبوك في الجمع بين الصلاتين.? من
"طبقات الشافعية" لأبي عاصم محمد بن أحمد العبادي ص (19).
حاصل ما قاله أهل العلم في هذا الحديث:
1- صحيح عند ابن حبان.
2- حسن عند الترمذي.
3- منكر عند الخطيب وأبي داود إن ثبت عنه.
4- موضوع عند الحاكم.
الجواب عن هذه المطاعن
الجواب عن المطاعن الثلاث الأولى هو: أن قتيبة رحمه الله تعالى لم ينفرد به بل قد رواه هشام بن سعد كما سيأتي إن شاء الله.
وأما قول أبي سعيد بن يونس: يقال: إن قتيبة غلط فيه إلخ كلامه. فهذا لا يثبت إلا ببرهان.
وأما القصة التي ساقها الحاكم والخطيب واعتمد عليها ابن حزم، فإنّها تدور على شيخ الحاكم محمد بن موسى بن عمران. قال الحافظ في "لسان الميزان": وكان له فهم، ولكنه كان مغفلاً، ذكره الحاكم.? وصالح بن حفصويه راوي القصة عن البخاري ما وجدت ترجمته، ولا نكتفي بقول الإمام ابن خزيمة: وكان صاحب حديث. فثبوت القصة متوقف على صحة السند إلى البخاري رحمه الله.
ويبقى على الحديث ثبوت سماع يزيد بن أبي حبيب من أبي الطفيل، فإنه ممكن لأن أبا الطفيل توفي سنة (100) وولد يزيد بن أبي حبيب سنة (53) لكنه لم يأت في حديث آخر ولم يصرح في هذا الحديث بالسماع، وهو يرسل فينبغي أن نتوقف فى سماعه من أبي الطفيل.
وأما قول الحاكم رحمه الله: (فهؤلاء الأئمة ماكتبوه عن قتيبة إلا تعجبًا من سنده ومتنه) فدعوى فإن أئمة الحديث رحمهم الله قد يكتبون الحديث ليتخذوه حجة عند الله، وللتوقف فيه حتى يحصل له عاضد، وللنظر في مذهب المحدث، والظاهر هنا الأول، ذلك لأنّهم لو علموا أن قتيبة واهم في هذا لراجعوه. كيف ويحيى بن معين قد اختبر شيخه أبا نعيم الفضل بن دكين، والبخاري قد رد على بعض شيوخه، كما في مقدمة "الفتح"، وقد ساق الخطيب بسنده إلى قتيبة أنه قال لأحمد بن محمد: ما رأيت في كتابي من علامات الحمرة فهو علامة أحمد بن حنبل، وما رأيت فيه من الخضرة فهو علامة يحيى بن معين.
وأما أبوحاتم رحمه الله فإنه اعتمد على شيئين: أحدهما: أنه لم يجد الحديث في مصر، وإنما حدثه به قتيبة وهذا لا يمنع أن يتفرد قتيبة بحديث عن الليث، والثاني: أنه عللها برواية أبي صالح عن الليث، عن هشام بن سعد. وأبوصالح هو عبدالله بن صالح كاتب الليث، والكلام فيه معروف، وهشام هو ابن سعد مختلف فيه والراجح ضعفه إلا إذا روى عن زيد بن أسلم فهذه الرواية لا تصلح أن تكون معلة لتلك الرواية.
هذا والجواب عن بقية المطاعن تؤخذ مما تقدم، وعلى كل فليس الاعتماد في المسألة على حديث قتيبة ولكن على الأحاديث المتقدمة.
وبعد: فقد ترجح لي ضعف حديث قتيبة لإنكار كبار المحدثين على قتيبة وتوهيمه، ويغني عنه ما تقدم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع جمْع تقديم بعرفة، ولأدلة أخر. والحمد لله رب العالمين.
متابعات وشواهد
قال الإمام أبوداود رحمه الله في "سننه" (ج1 ص 27): حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبدالله بن موهب الرملي حدثنا المفضل بن فضالة والليث ابن سعد عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشّمس قبل أن يرتحل جمع بين الظّهر والعصر، وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر حتّى ينْزل للعصر وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشّمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن يرتحل قبل أن تغيب الشّمس أخّر المغرب حتّى ينْزل للعشاء ثمّ جمع بينهما.
تخريج الحديث:
أخرجه الدارقطني (ج1 ص362)، والبيهقي (ج3 ص 162) وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص322).
والحديث في سنده هشام بن سعد، وهو ضعيف، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري، وقرة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم قاله الحافظ في "الفتح".
وأما قول الحافظ في "التلخيص": فقد خالفه أوثق الناس في أبي الزبير وهو الليث بن سعد، فينظر فإنه وإن خالفه في المتن من طريق أخرى فقد روى عنه هذه الطريق كما عند أبي داود.
هذا وفي الباب جملة أحاديث كما في "التلخيص"، و"زاد المعاد" (ج1 ص163) وليس لدي وقت لذكرها بأسانيدها، ولكني أعرّج عليها مع بيان ما يظهر لي فيها:
1- ما رواه أحمد والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه حسين ابن عبدالله الهاشمي ضعيف جدًا، وقد اتّهم بالزندقة كما في "ميزان الاعتدال"، وقد اختلف عليه فيه.
2- كذلك ما رواه يحيى بن عبدالحميد الحمّاني في "مسنده"، عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. ويحيى بن عبدالحميد الحمّاني حافظ منكر الحديث، وقد وثّقه ابن معين وغيره. وقال أحمد: كان يكذب جهارًا. وقال النسائي: ضعيف11. وحجاج هو ابن أرطأة ضعيف. والحكم هو ابن عتيبة، لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث كما في "تهذيب التهذيب" ليس هذا منها.
وذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (ج1 ص183) وقال: قال أبوزرعة: هو خطأ إنما هو أبوخالد عن ابن عجلان، عن الحسين بن عبدالله، عن عكرمة ، عن ابن عباس.?
3- وروى إسماعيل القاضي في "الأحكام" عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن